الجديد

في زمن القهر .. بقلم:أحمد جميل حسن





 في زمن القهر
 



يحاول جاهداً أن يلملم أفكاره المشتته وتسرح مخيلته بتلك اللّحظات التي كانت تجمعه بخطيبته نسرين
فهي تعني له الكثير،لم ينس أنها كانت تدثره برداء دافىء من الحنان عندما كانت تضيق به الدنيا ولا يجد سوى الكبت والسوداوية تطبق على كيانه المقهور،يحس بلمس أصابعها تزحف بخجل على خدّه، تمسد بكفها الطرية شعرلحيته الكثة المهملة منذ شهور،تسري في جسده رعشة تجتاز الألم والقهر وتستقر في قلبه المهموم يشعر جرّاءها بسعادة غامرة تجتث حزنه للحظات.
  يتأفف ضجراً فالحالة لم تعد تطاق منع تجوال وحصار دائم، ثمة شيء يكوي روحه ويحرق همسات الأمل في نفسه،يغني للحزن ويرتديه الخوف،يتلهف للبوح بمكنونات صدره ولا يستطيع.  توقف عمله ولم يعد قادراً على تأمين لقمته ،أكل الغبار عدته وأصبحت منجرته وكراً للفئران تتجول فيها كما تشاء قضمت الكثير من أطراف ألواح الخشب المعدة لتصنيع الأبواب والنوافذ.آخر مرّة فتح بها المنجرة كانت عندما ألحت عليه جارتهم أن يصنع لها باباً بالدّين بدلاً من باب بيتها الذي هشّمته شظايا قنبلة أطلقتها قوات الاحتلال على الحي.
 حين كان يرى الصغار يحملون الحجارة ويقذفون بها الجنود،كان يهزّ رأسه ويهمهم: ( ألا يوجد أهل لهم؟ أوْلى بهم أن يحملوا كتاباً أو أن يلعبوا بالدمى في منازلهم ولا يعرّضون حياتهم للخطر ويشغلوا بال أهلهم عليهم،ويتركوا هذه الأعمال،لقد وقع اتفاق"أوسلو" وانتهى الأمر وسيعم السلام)
قبل أن يتسلم زمام العمل في المنجرة كان يذهب إلى  والده كل يوم بعد انصرافه من مدرسته التي تقع وسط حي "القريون" يساعده  بدق مسمار في باب،أويمسح بالفارة فردة شبّاك،أو يطلي الخشب المعد للضغط بمادة الغراء،قال له والده عندما أتقن الصنعة وتسلم المنجرة:
-(اسمع ياسعيد هذه المنجرة هي التي تسترنا،فمن العمل فيها نعيش أنا وأنت ووالدتك،فأخوك محمود منذ سافر إلى الخليج لم يبعث لنا قرشاً واحداً،وأخواتك الله ستر عليهن وتزوجن،وهذه المنجرة كونتها بدم قلبي فحافظ عليها يابني،ما بدّي مشاكل غداً حين ترى الشباب يحملون الحجارة ويقذفون بها الجنود تدب بك النخوة وتذهب معهم،هذا حكي فاضي العين لا تقاوم المخرز ،اهتم بعملك فقط)
يقضي في البيت الساعات الطوال دون عمل،جلب معه إلى البيت المنشار الآلي الصغير وعدّة أزاميل بمقاسات مختلفة كي يشغل نفسه في صنع تحف صغيرة من الخشب كان والده يصنعها ويبيعها للسياح الذين يأتون إلى الحي القديم في مدينة نابلس في زمن كانت فيه المدينة هادئة،لكن الوضع اليوم مختلف تماماً،فلا سياحة منتعشة ولا سيّاح يأتون.
تسرق نسرين خطيبته بضع دقائق من حي "القيسارية" وتأتي  إلى منزله كل يوم في حارة"الحبلة"،يتحادثان في أمورهما،تنكفئ غاضبة في أغلب زياراتها عندما يعلمها سعيد أن الوقت الآن غير مناسب لإتمام زفافهما:"أنت تعلمين أنني أتوق إلى اليوم الذي نكون فيه تحت سقف واحد،وتعلمين أيضاً مدى حبّي لك ولكن ألا ترين معي أن الأمور تسير من سيء إلى أسوأ ،هل تريديننا أن نتزوج على هدير الدبابات التي تقصف المدن والقرى والمخيمات أم على هدير الجرافات التي تهدم البيوت وتقتلع الأشجار؟ كان بودّي يا حبيبتي أن أحملك على جناح الشوق وأطير بك إلى مكان لا يكون فيه إلا أنا وأنت،نقطف من الحب شهده ومن اللقاء حرارته،أتوق لضمك ولكن…"
-لو كل الشباب تريّثوا ولم يتزوّجوا بسب الانتفاضة لمارأيت طفلاً يحبو،لكن أنت دائماً هكذا متردد ولا تحسم أمرك.تعب الطريق من قدمي وأنا آتية غادية من أجلك،ضجر الليل من سهري وطول انتظاري،وأنت لا تسأل أو تبحث عن حل ينهي وحدتي .
 خطبها له والده عندما رآها تمر كل يوم من أمام المنجرة لا ترفع رأسها عن الأرض مثل أغلب البنات اللواتي في مثل سنها، بل كانت على حد قول أبي سعيد" محتشمة ومحترمة و"متربية" جيداً وسعيد الحظ الذي تكون في بيته". وكباقي الصبايا التي تُخطب،تتوق إلى ارتداء بدلة الزفاف، أحبت نسرين سعيداً خطيبها الذي سهرت الليالي تحلم بأن يحملها بين يديه بطرحتها الكبيرة والطويلة ويدور بها في الغرفة يوم زفافها، تماماً كما كانت تشاهد في المسلسلات التلفازية.
في ذلك اليوم الذي قرر فيه أن يذهب إلى "القيسارية"حيث بيت خطيبته ليتفق مع الدها على إتمام مراسم الزواج، رغم ضيق الحال وحراجة الموقف، فاجأته دورية من الجنود توقفت سيارتهم العسكرية بمحاذاته ونزل منها  ثلاثة جنود أمروه فور نزولهم بالانبطاح أرضاً ووضع يديه خلف رأسه،داس أحدهم على رقبته وتمتم:" غويم عربي كلب" بينما كان الآخر ينبش جيوبه وعندما لم يجد فيها سوى عشرة قروش صفعه بقوّة:"إرهابي قذر" لم ينبس سعيد ببنت شفة بل بقي مستكيناً مستسلماً لهم دون أن يبدي حراكاً،همس الثلاثة بالعبرية فيما بينهم ثمّ ركله أحدهم وبصق عليه وصعدوا إلى السيارة ومضوا.نهض ونفض الغبار عن ملابسه،مسح البصقة عن وجهه وعيونه تبرق غضباً مكبوتاً يوحي بعجز اختياري شبيهاً بالذل الذي أصبح مألوفاً لدى البعض ممن اقنعوا أنفسهم بأن "العين لا تقاوم المخرز".
ذهول ينشره الموقف فوق صفحة وجهه الأغبر،وفي عينيه يرسم تاريخاً جديداً كان قبل فترة وجيزه مغيباً إلى حد الخنوع،يخترق الحزن ضلوعه ويبدأ رحلة القهر المتمرد.
 سار في الزقاق المعتم على عجل،التفت يميناً ويساراً ثم صوب نظره إلى الطريق الذي ذهبت منه سيارة الدورية. عاد إلى بيته يجر ذيول الانكسار والخيبة، وقد أدمى قلبه استسلامه للدورية وإهانتهم الكبيرة له دون أن يرتكب ذنباً ضدهم،أتعبه القهر بصمت وتاه على أرصفة الحزن. دخل إلى غرفته على غير عادته استلقى على السرير وسرح بما حدث معه اليوم ( رمي الحجارة على الجنود حكي فاضي، إنهم لايؤذون الذي لا يؤذيهم،نعم إنهم محتلون ومغتصبون لكنهم بشر ويحبون الحياة كما نحبها يا بني،يجب أن نعيش بما نحن فيه حتّى يفرجها الله علينا  ) كانت كلمات والده تنخر في أذنه وصار يعيش في دوّامة،مشتتاً في فضاء عمره ويغوص في الندم، فهو لم يؤذهم ورغم ذلك أهانوه وكادوا يقتلونه وحاولوا أيضاً سلبه نقوده لو كان في جيبه نقود، مسالمون ولا يؤذون من لا يؤذيهم،وفعلوا ما فعلوه معه، كيف ؟!تناهبته الحيرة وأثقل السؤال رأسه.
كانت هذه المرة الأولى التي يتعرض فيها سعيد لمثل هذا الموقف،فقد كان عندما تشتد المواجهات بين المقاومين الفلسطينيين والجنود الصهاينة يقفل المنجرة وينسل على عجل إلى البيت دون أن يلتفت خلفه.في مرات عديدة كان يحاول منع الفتيان من قذف الجنود بالحجارة صارخاً بهم: "هذا لا يفيد اذهبوا إلى بيوتكم وادرسوا"
قضى بقية النهار يفكر، تدور برأسه أمور كثيرة ولعل ما أخذ حيزاً كبيراً من تفكيره هو تلك الجرأة التي يواجه بها الأطفال مثل أولائك الجنود بقسوتهم وبطشهم، أيقن أنه كان  يغط في سبات عميق، وأن الخنوع عشش في نقي عظامه، وأنه يحتاج إلى معجزة كي يتخلص من شيء اسمه الخوف، يهذر بما يشبه الهمس:" سامحك الله يا والدي أنت الذي أقنعتني بأن مقاومة هؤلاء ضرب من المحال،وأدخلت اليأس والخضوع والتسليم بالأمر الواقع إلى نفسي،إيه كم كنت غبياً حين صدقتك وكذّبت عيني التي كانت ترى كل ما يفعلونه !!"يرتجف حين تقوده مخيلته بأنه يحمل رشاشاً ويطلق النار على قوة هاجمت الحي الذي يسكنه يكاد يلتصق بالجدار من شدّة فزعه عندما يتصورهم يطوقونه ويصوّبون رشاشاتهم إلى جسده.تقفز فجأة نسرين إلى ذاكرته يطرد شوقه إليها خوفه، ويداعب الحنين فؤاده ويستل طيفها رعشات الخوف من أطرافه ويهدئ من روعه.يوقظه من سرحانه عدّة طرقات على الباب،يتناهى إلى سمعه صوت أمه:"أهلاً حبيبتي نسرين"يلملم الرجل كيانه ويتساءل: (ما الذي أتى بها هذه الساعة؟)
-أين سعيد؟سألت نسرين والدته بحدة وغضب.
وقف أمامها حدّق بعينيها،تهجّى القهر المتورم فيها،سمع هديراً من العتب يزحف على ثغرها، وهاله ذبول الورود على خدّيها،وتلك الرجفة المتراقصة على شفتيها.شعر وقتها بضعفه وخذلانه أمامها وأنه ناقص الرجولة ولا يستحق أن يكون زوجها في زمن القهر هذا،فلن يستطيع حمايتها إن بقي يحلم بوهم الأمان وأن أولاده الذين ستنجبهم سيشبّون على الخنوع والخضوع،لا يدري كيف نطق متلعثماً:
-"أهلاً نسرين".قالها ببرود،وأشاح وجهه هروباً من سطوة حبها.
-أينكَ أنتَ؟ لماذا لم تأت؟
كالأبله وقف صامتاً مضرجاً بالحيرة ،يهرب من حرارة اللّقاء،ويداري شغف العشق،يشتعل الحنين في جوانحه فيخمده مشهد الجنود حين داسوا لهفة قلبه إليها وتوقه إلى ضمها،ارتداه التشظي وحاول جاهداً جمع ما تبقى من بحة صوته المهدور في صرخات الخوف:
-نسرين يجب أن ننهي ما بيننا، أنا لست لك وستجدين من هو جدير بك،انْسِني .
خلع خاتم الخطبة وسط ذهولها ووضعه في كفها،ثم استدار وعاد إلى غرفته. 
 وقبل أن تنكفئ مكسورة ضائعة وهي تحاول أن تلملم شتاتها وتتعرى من ذهولها همست والقهر والخيبة تخطفان بريق عينيها:"بعد أن أضرمت قلبي بنيران الفرح،و قدت خطواتي وراء الأمل،بعد أن رششت وسائدي بالعطر والحناء،الآن تريد أن تلبسني ثوباً من نيران الشوق،وقلادة من حرّ الدموع، هكذا ينتهي كل شيء،تمضي كطيف و يموت كل ما بيننا".
تعالى صوت الرصاص في المدينة بغزارة،وكان يتخلله أصوات مدوّية تصم الآذان من قذائف الدبابات وصواريخ الطائرات،والمقاومون يتقافزون من موقع دكته الطائرات أو الدبابات إلى موقع آخر يكون أكثر أماناً في الأزقة الضيقة المعتمة،يحاولون أن يوقفوا زحف المشاة بأسلحتهم الخفيفة المتواضعة،اخترقت قذيفة جدار المنزل الذي بجوار بيت سعيد ودمرته بعد أن قتلت كل من فيه.
عندما كان سعيد يحمل "براءة" ابنة الثلاثة أعوام مضرجة بدمائها وصرخة هلع وخوف ارتسمت في عينيها،أحسّ بأن الدم في عروقه يلهب كيانه وأن شرايينه ستتفجر غيظاً وقهراً، قتلوا"براءة" التي كانت تقف على باب بيتها تسترق لحظة من الطفولة الحبيسة لتلعب،وعندما تراه يتهلل وجهها بالفرحة وتناديه:( عمّو سعيد  بدّي حصان خشب).كان نقوط أمه لأمها عندما أنجبتها سريراً من خشب الزّان صنعه خصيصاً لها.وكشيخ يحتضر تمتم "لا يؤذون الذي لايؤذيهم" ثمّ صرخ بصوت مجلجل:"تباً لك يا سعيد،كيف كنت مغيباً طيلة هذا الوقت،تباً لك يا أبي كيف كنت تحاول إقناعي بأن هؤلاء القتلة يحبون الحياة".ناول الصغيرة إلى رجل،وعدا سريعاً تحت وابلٍ من الرصاص والقذائف نحو الأزقة الضيقة المعتمة.
        أحمد جميل حسن  

ليست هناك تعليقات