الجديد

الأصيل والمعاصر في ثقافتنا.. وتطوّر كلمة الأدب نموذجاً بقلم: د. محمّد خطّابي





الأصيل والمعاصر في ثقافتنا ..

وتطوّر كلمة الأدب نموذجاً





 
الحديث عن الثابت والمتحوّل، أو الأثيل والدخيل، أو الأصيل والمعاصر، أو الوافد والتليد، في ثقافتنا موضوع سال من أجله مداد غزير، فهناك من يتشبّث بالأصول لا يرضى بها أو لها بديلاً تحت ذريعة حفظ الهويّة والجذور، وهناك من يعانق كلّ جديدٍ وافدٍ كَسِمَةٍ من سمات الإنفتاح، والتطوّر، والتحديث، والعصرنة، بمعانيها الواسعة، وهناك من يحاول الجمع، أو التقريب بين هاذين التيارين اللذين يبدوان للوهلة الأولى وكأنّهما يقومان على طرفيْ نقيض. وينطبق هذا على مختلف مجالات الفكر، والثقافة، والآداب، والعلوم، والشعر، والشريعة، والتاريخ، واللغة ومعظم المجالات، والمفاهيم، والسلوكيات التي أضحت تتحكّم في حياتنا العصرية. فالثابت معناه الرّسخ أوالرّاسخ، ومعناه الديمومة، والإستمرارية، والملازمة، والبقاء، وجاء في التنزيل الحكيم كلمة طيبة كشجرةٍ طيبة أصلها ثابت وفرعها في السّماء، وأمّا المتحوّل، أوالمتغيّر، أو المتحرّك، أو المتنقّل فمعناه التحوّل، والتبدّل، والتغيير، أو التغيّر، وفى التنزيل الحكيم كذلك إن الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم.
تطوّر كلمة الأدب نموذجاً
فلنتوقّف قليلا في هذا المجال عند كلمة الأدب بالذّات، على سبيل المثال وليس الحصر، كنموذج للتطوّر واالتحوّل اللذين تشهدهما اللغة نفسها، والكلمات والألفاظ التي تتالّف منها، فقد صار معنى كلمة الأدب يكتسب في كلّ عصر مفاهيمَ جديدةً لم يكن يعنيها من قبل، وهي من المصطلحات التي دارت حولها مناقشات عدّة. هذا ما أكّده لنا جهابذة الدارسين والمدرّسين للأدب العربي، والنقد الأدبي بشكل مباشر في حلقات الدّرس التي كنّا نختلف إليها في كلية الآداب بجامعة عين شمس بالقاهرة، أمثال الدكاترة: مصطفى الشّكعة، وعبد القادر القطّ، وعزّ الدين إسماعيل، ولطفي عبد البديع وسواهم، فهذه الكلمة عرفت عدّة مراحل أو أطوار لغوية، ففي الجاهلية إستعملت في كلامهم شعراً ونثراً بمعنى الدعوة إلى الطعام، ويستدلّ المؤرّخون القدماء على ذلك بقول الشاعر المُجيد المنكود الطالع في شبابه، صاحب لخولة أطلال ببرقة ثمهد /تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد، طرفة بن العبد، عندما يقول: نحن في المشتاةِ نَدْعُو الجَفَلَى/ لاترى الآدِب فينا يَنْتَقِر، إنك لا ترى الدّاعي فينا إلى الطعام يخصّ شخصاً دون آخر، ومنها إشتقّوا كلمة أدب - يأدب، بمعنى أعدّ أو صنع طعاماً، كما إشتقّت منها كلمة المأدبة جمع مآدب وهي الوليمة، أو الولائم .
وقد تحوّل هذا المعنى إلى قياس، فالضّيف أو الآدب إلى المأدبة غالباً ما يتّسم بأدب، وحشمة، وخجل، وخُلق، والغريب أنّه في لغة أمازيغية سكّان منطقة كتامة وضواحيها وأرباضها الواقعة على الطريق الجبلية القديمة الرّابطة بين مدينتي تطوان والحسيمة شمالي المغرب ما زال يسمّي بعضُهم الضيوفَ بهذا المعنى أيّ الخجولون، فيطلقون إسم إمحاشمن على الضيوف أيّ هؤلاء الذين تعتريعهم الحِشمة ويميّزهم الوقار عندما يكونون في غير منازلهم. ويقول الشاعرالعربي في سياق آخر ما معناه : نديمي غير منسوبٍ إلى شيءٍ من الحيفِ/سقاني مثلما يشرب كفعل الضيف بالضيفِ/فلما دارت الكأس دعا بالنّطع و السّيفِ/كذا من يشرب الرَاحَ مع التِّنين في الصّيفِ..!
ولقد إستعمل الرّسول الكريم كلمة أدب فيما بعد فقال أدّبني ربّي فأحسنَ تأديبي .ثم إستعملت الكلمة في العصر الأموي بالمعنى الخلقي والتهذيبي، إلاّ أنه أضيف إليها معنىً تعليمي، ف المؤدّبون كانوا يعلّمون أبناءَ الخلفاء مختلفَ العلوم، والمعارف، والآداب، والأخبار. ثمّ أصبحت هذه الكلمة تعني فيما بعد العِلم، الذي كان يطلق إبّانئذ غالباً على العلوم الدينية، والفقهية، والنحوية، والتاريخية، والفلسفية، والفلكية إلخ. وقيل كلّ إناء يضيق بما فيه، إلاّ إناء العِلم فإنه يزداد إتّساعا...!.
وكان التعليم الأدبي في العصر العبّاسي قائماً على الرّواية، والنّسب، والشّعر، واللغة، ونحوها، وصرفها، وعَروضها، فأطلقت على كلّ هذه العلوم... قال صاحب المقدّمة عبد الرحمن ابن خلدون: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كلّ عِلم بطرف. ثمّ صارت الآداب تطلق على فنون المنادمة وأصولها، إذ كانوا يعتبرون معرفة النّغم، والأغاني، والسّماع، والطرب من أرقى وأرقّ فنون الآداب، ثم إنفرد لفظ الأدباء بعد ذلك بالشّعراء والكتّاب .
ثم سرعان ما أصبح الأدب يرادف لفظ الثقافة، فالعلوم، والمعارف، والإنسانيات، والإجتماعيات، واللّسنيات، والفنون الجميلة كالموسيقى، والرّسم، والتصوير، والشّعر، ومختلف مجالات الإبداع، تدخل في باب الأدب بمعناه العام والواسع اليوم.
الثابت والمتحرّك
الثابت والمتحوّل، يفضيان إلى ما عرف بالأصالة والمعاصرة، أو بالقديم والحديث، أوبالمطلق والنسبي، أو بالموروث والحداثي .ويؤكد غير قليل من الباحثين أنّ الجدلية بين ثقافة المجتمع وقيمه لا يمكن أن تنفصم، وكلّ ثقافة لا تنطلق من قيم المجتمع السائدة فيه هي ثقافة منبوذة، وعليه فإنّ أيّ مجتمع أيّاً كان لا يمكنه أن يتأقلم مع ثقافات أجنبية دخيلة أو وافدة عليه تتنافى أو تتجافى مع القيم الأصيلة، والمبادئ الراسخة والمتعارف عليها في هذه المجتمعات أو هذه الثقافات.
وليس معنى التشبّث بالثقافة الأصلية إهمال ثقافة الآخر، وعدم الاطلاع عليها والإفادة منها، بل إنها تعني العودة إلى الأصول، والإغتراف من الينابيع الأولى أيّ الرجوع إلى الأصل أو الأثل بمعناهما الواسع مع ضمان المرونة والإنفتاح، والطواعية، وعدم رفض ثقافة الآخر والتحجّر في الرّأي.
وما فتئنا نشهد معارك كلامية ساخنة، ولا أقول طاحنة ! إلى يومنا هذا بين مسمّيات، ومخترعات، ومصطلحات لغوية متعددة، ولكنها تصبّ في آخر المطاف في معنىً واحد، وهي طالما وردت وكرّرت وإنثالت على ألسن مختلف الدّارسين في مختلف ربوع وأصقاع العالم العربي والإسلامي المترامي الأطراف، مثل مصطلحات من باب التقليد والتجديد، والأصيل والدخيل، والمحافظة والتحديث، والجمود والتحرّر، والرجعية والتقدمية، والأنا والآخر، والقيد والإنعتاق، والإنسية والإستلاب، والوافد والتالد، والمحليّ والعالمي، والقديم والجديد، والتراث والحداثة..إلخ.
ويؤكّد الناقدان الإنكليزيان ريتشارد وأوغدن في كتابيْهما الذائع الصّيت صصفى معنى المعنىصص أنّ الثقافة مثل اللغة مخلوق حيّ يدبّ على قدمين وهي ليست جامدة، أو هامدة بل إنها في تبدّل وتطوّر دائمين، وهي في نموّ مطّرد، وتغيّر متواصل . وإلقاء نظرة على تاريخنا وثقافتنا ولغتنا في مختلف العصور يؤكّد لنا مصداق هذا القول. فالإنفتاح الذي طبع ثقافتنا هو الذي كفل لها الغنى والثراء، والتنوّع والتعدّدية، وشكلٍ خاص التطوّر والإستمرارية الذين تتميّز بهما اليوم، متشبّثة بماضيها التليد، وقائمة على حاضرها العتيد، ومنفتحة على غدها الواعد .
العناية بالمكوّنات الأساسية
كنت قد نبّهت في عدّة مقالات سابقة أنّ الدّفاع عن جذورنا، وأصولنا، وعن أصالتنا، وهويّتنا، وكياننا لا ينبغي أن يثنينا، أو ينسينا، أو يقصينا، أو يبعدنا عن العناية، والإهتمام، والنّهوض، والدّفاع كذلك بشكل متوازعن عناصر هامّة، ورئيسية أخرى في المكوّنات الأساسية، والأصلية، والأصيلة للهويّات، والإثنيات، والأعراق الوطنية الأخرى في رقعتنا الجغرافية، وفى مختلف أنحاء المعمورشرقاً وغرباً، ففى حالة البلدان المغاربية على سبيل المثال، فإنّ اللغات الأمازيغية التي تعتبر من المكوّنات الأصليّة كذلك في نسيجها الإجتماعي قد تعايشت جنباً إلى جنب مع لغة الضّاد في تآخٍ، وتكامل، وتناغم وتلاحم وإنسجام منذ أقدم العصور، في مجتمعات إتّسمت بإستمرار بالعدّدية، والتنوّع، والمرونة والإنفتاح، ليس على لغاتها ولهجاتها الأصلية المتوارثة وحسب التي ما إنفكّت تعيش بين ظهرانينا حتى اليوم، بل وحتى على اللغات الأجنبية الأخرى الدخيلة كالفرنسية، والإسبانية، والإنكليزية، والإيطالية وسواها، وحسبي أن أشير في هذا الصّدد إلى التعايش الذي كان قائماً بين هذه اللغات برمّتها، والذي لم يمنع أبداً في أن يكون هناك علماء أجلاّء، وكتّاب جهابذة في هذه اللغة أو تلك من مختلف جهات ومناطق هذه البلدان، وكان المواطن من أصل عربيّ في هذا السياق يفتخر ويتباهى بنخوة وشجاعة وأرومة إخوانه من البربر الأمازيغ، والعكس صحيح، حيث قال قائلهم في هذا الصدد: وأصبحَ البِرُّ من تكرارِه عَلَماً/على الخيرِ والنّبلِ والمَكرماتِ، فالبِرّ بكسر الباء الذي يعني الخير والإحسان إذا كُرّر أصبح برّبرّ أي البربر أو الأمازيغ، حيث كانت تعني هذه الكلمة في لغتهم القوم النبلاء الأحرار .
وهذا شاعر آخر من الرّيف الوريف شمالي المغرب ينشد متحسّراً ومتألّماً على مدينته التي إندرست، وإندثرت، وتلاشت، وبادت بعد التعايش الزّاهر، والإزدهار المتألّق الذين عرفتهما حاضرته من قبل، مستعملاً ثلاث لغات في بيت واحد من الشّعر وهي اللغات: العربيّة، والرّيفيّة، والسّودانية، وهو دليل التعدّدية والإنفتاح الذين كانا سائدين في ذلك الإبّان فقال: أثادّرثْ إينُو مَانيِ العلومُ التي دَكَم/قد إندرستْ حقّا وصارت إلى يَرْكَا ، وقيل إنّ يَرْكا باللغة السّودانية تعني الله، وبذلك يكون معنى البيت : أيا داري أين العلومُ التي كانت فيكِ/قد إندرست حقّا وصارت إلى الله .
الأصالة تقتضي الإعتزاز بالإنتماء، والتشبّث بالأصول، والتعلّق بالجذور، والتراث، فالشجرة الكبيرة أو الدّوحة العظمى الضاربة جذورها في عمق الثرى لا يمكنها أن تقتلع من مكانها، وفى حال القيام بذلك تتعرّض للخطر، والتّوى، والموت، والهلاك. المحقّق.وربّما لهذا يقال إنّ الأشجار تموت واقفة ...! إلاّ أنّ ذلك لا ينبغي أن يثنينا، أويمنعنا أو أن يحول بيننا أبداً كذلك دون فهم، وهضم وإستساغة وتقبّل عصرنا بكلّ ما يقذفه لنا من مستجدّات، ومتغيّرات، ومعايشات، ومخترعات، أيّ المواءمة بين إرث ثقافي أصيل، وبين حاضر قائم معاصر .وقديماً قيل: دعني والفخارَ بعزِّ قوم /ذهبَ الزّمنُ القديمُ بهم جميدَا/وشرّ العالمين ذوو خمولٍ/إذا فاخرتهم ذكروا الجدودَا/وخيرُ النّاسِ ذو حسبٍ قديمٍ/ أقام لنفسه حَسَباً جديدَا.

كاتب وباحث ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية - الأميركية للآداب والعلوم كولومبيا. د. محمّد. م خطّابي -  غرناطة

ليست هناك تعليقات