الجديد

دوامة الطريق بين جنة الأرض وجنة السماء .. بقلم: دعد ديب






دوامة الطريق بين

جنة الأرض وجنة السماء

 في رواية حسن داوود 

" لا طريق إلى الجنة "




يحفر حسن داوود في روايته المعنونة بـ «لا طريق إلى الجنة» إصدار دار الساقي والفائزة مؤخراً بجائزة نجيب محفوظ للرواية، في وعورة أرض تبدو صلبة، بفعل إشكالية الأسئلة الصادمة في تناوله لماهية الفردوس ودلالة الجوهري والعميق فيه، وبمقاربته الصراع بين من يتطلع إلى العيش في ذلك الفردوس على الأرض وبين من ينتظره وعداً مؤجلاً في السماء، حيث تظهر ومنذ العنوان بنفي وجود طريق إليه، مثيراً بذلك فضولاً غير قليل عند المتلقي الذي سيتساءل عن بدائل لهذا الإحباط التي تبشرنا به الرواية، وتدفعه لكي يلج عالمها بريبة المستكشف، حيث التناقض المعبر عنه في شخصية البطل، بين ما يعيشه في العلن وبين ما يضمره في السر، بين رغباته المبطنة والمكبوتة وبين سلوكه الواقعي، مُشكِّلةً الخطوط العريضة للعمل مضيئاً ومفككاً العالم الداخلي لشخصية رجل الدين، وهي صفة أسبغت على صاحبها بالوراثة في تاريخ سلالي متصل من الأجداد للأحفاد في عائلة كهنوتية محتكرة للفقه، وبذلك فهي قد جاءته كتحصيل حاصل بوصفه فرداً في ذلك الخيط المتصل، فلم يسأله أحد عنها، وهو لم يخيَّر فيها ولم يخترها، ولم يستطع الرفض لسطوة الهيمنة التي يسيطر بها والده على من حوله تلك الهيمنة التي يشعر بتصاغره إزاءها إضافة إلى حياته العائلية الخالية من المعنى في زواج اختير له لينتج عنه إثنان من الأبناء البُكم في إشارة رمزية ونتيجة دلالية غير خافية إلى فقدان الصوت المعبر والخيار الحر.
تزدحم التناقضات عند هذه الشخصية المحورية لتبلغ أشدّها عند إصابته بمرض السرطان محيلاً للأصل الرمزيّ في المرض بقوله :"كأني زرعتُ بذرته فيَّ وربيته شهراً بعد شهر ..حتى يحين مجيئه "وخلافاً للسائد عند البشر في حالة العجز والمرض في اقترابها من الغيبيات والماورائيات نرى بطلنا عند اصطدامه بالخطر المهدد للحياة يبحث عن جنته الأرضية المتمثلة في خياره الحر فيخلع عمامته وعباءته ويبادر إلى وصال أرملة أخيه المشتهاة التي طالما ألهبت خياله المكبوت في قطع حياتي مع ماض لم يكن له يد في اختياره مضحياً بمكاسب القبول الاجتماعي والسطوة الدينية لعائلته في فعل ثوري تأكد بتخليه عن مكتبة الوالد لصالح الجامع تلك المكتبة التي طالما حافظ عليها أبوه كموروث ديني وعائلي يحمل في طياته عقلية صارمة تجاه ثوابتها غير القابلة للشك.
هذا الفعل المغاير للمألوف أتى دون ضجيج ودون بديل مؤكد يوحي باسترداد ما فقده طيلة سنواته السابقة  إذ يظهر وكأنه استمرارية لحوارية ضمنية في العقل الباطن نشأت من زمن بعيد في الذات المغلقة على نفسها فتسللت إلى خارجها عندما ضعفت المعيقات المكبلة لها متمثلة بموت الأب، والمرض القاتل الذي وضعه بمواجهة وجودية عن معنى الحياة والموت.
النبرة الخاصة لصاحب «بناية ماتيلد» تعبر عبر سردية ذات خصوصية عبر إيماءت لصياغة عمارته الفنية في براعة صانع لا تخفى على متلقيه إذ جاءت لغة الرواية محكمة القص محافظة على رتابة الإيقاع وبطئه لتنسجم مع البنية النفسية للشخصية القلقة التي تتبدى إرباكاتها  بعمق جوَّاني غير ظاهر للسطح متوافقة مع الفضاء المكاني المحدود التي يجري به الحدث الروائي ( المسجد – البيت – المشفى ) مع انعطافات بسيطة لمدارس الأولاد أو للقرية المجاورة التي نوى الانتقال إليها كحل جزئي للتخفيف من ضغط الالتزام  بالعمل الذي لم يختاره فمغازلة داوود للمقدس الديني اكتفت بجانب منه وهو رفض التسليم بما هو متعارف فيه فهو لم يتناوله إلا بوصفه حاجزا أمام امتداد الروح وآفاق الحرية، فاتحاً الباب لخلخلة هيمنة الثقافة ذات البعد الغيبي بطرق بابها الأوسع وهو حرية الاختيار .
رواية «لا طريق إلى الجنة» أغنية تحريضية لمريدي الحرية والانعتاق ضد مهيمنات الروح والوجدان تحيلنا الى الاستلاب الذي يحياه كل كائن في جملة المفاهيم والقناعات التي تفرض عليه منذ نعومة أظفاره بشكل متفق مع المجموع القطيعي كدرع حماية للفرد الأعزل ضريبتها فقدان خصوصية ذاته المفردة.

 دعد ديب

ليست هناك تعليقات