قصّة قصيرة لسلطان السّخرية فى آداب أمريكا اللاّتينيّة
الزّرَافةُ التي أدركتْ أنَّ كلَّ شئٍ نِسبيِّ..!قصّة قصيرة لسلطان السّخرية فى آداب أمريكا اللاّتينيّةالكاتب الغواتيمالي أَوْغُوسْتُو مُونْتِيرُّوسُّو
منذ زمن بعيد، وفي بلدٍ ناءٍ، كانت تعيش زرافة ذات قامة متوسّطة، كان بالزرافة غفلة، إذ خرجت ذات يوم من الغابة وتاهت، فلم تدر أين تسير ولا أين تتّجه، فصارت تمشي على غير هدىً من هنا إلى هنالك، حاولت البحث عن طريق العودة فلم تهتدِ إليه، وهكذا، ظلت تتجوّل في أرض الله الواسعة، حتى وجدت نفسَها في فجّ بين هضبتين حيث كانت تدور رحى معركة حامية الوطيس. على الرّغم من أنّ عدد القتلى كان مرتفعاً في الطرفين، لم يستسلم المتحاربان، ولم يسمحا بالتفريط في سنتيمتر واحد من الأرض التي كانا يذودان عنها. كان الضباّط يحثّون جيوشَهم على الصّمود والإستمرار في القتال بضراوة، والسّيوف مرفوعة إلى أعلى، في الوقت الذي كان الثلج يكتسب اللونَ الأرجواني بدم الجرحى وبين تصاعد الدخان ، ودويّ المدافع وضجيجها، كنت ترى الموتى يتساقطون في صفوف الجيشين الذين يسلمون الرّوح في كل حين .
الأحياء كانوا مستمرّين في إطلاق النار بحماس منقطع النظير، وهكذا حتى يأتي دورُهم هم الآخرون في السقوط، إلاّ أنهم كانوا في تلك اللحظات يضعون في حسبانهم أنّ التاريخ سوف يذكرهم بفخرالأبطال، لأنّهم كانوا يهبون أنفسَهم دفاعاً عن شرف عَلَمهم، أخذ التاريخ بالفعل إقدامَهم وشجاعتهم بعين الإعتبار، وكان عادلاً، فقد حكم وقضى بالقسطاس لصالح الطرفين بأنهم أبطال، إذ كلّ طرف كان يكتب تاريخَه الخاص، وهكذا أصبح "ويلنغتون" بطلاً مغواراً بالنسبة للإنجليز، وأصبح "نابليون" بطلاً مقداماً بالنسبة للفرنسيين .
إستمرّت الزرافة في المشي ، حتى وصلت إلى جانبٍ من الفجّ حيث كان هناك مدفع كبير.
وفي تلك اللحظة ذاتها إنطلقت رصاصة طائشة مرّت بالضبط على بعد عشرين سنتيمتراً من رأسها من الجانب الأعلى، وعندما رأت الزّرافة الرّصاصة تمرّ بالقرب منها، وبينما كانت تتابع بنظرها طريقها، فكّرت وقالت :
الحمد لله الذي لم يخلقني طويلة القامة أكثر ممّا أنا عليه، إذ لو كان عنقي يزيد ثلاثين سنتيمتراً فلا بدّ أنّ الرصاصة كانت قد أصابتني في رأسي. والحمد لله كذلك على أنّ هذه الجهة من الفجّ، حيث كان يوجد المدفع، ليست منخفضة أكثر ممّا هي عليه، إذ لو كان إنخفاضها يقلّ ثلاثين سنتيمتراً لكانت الرّصاصة قد أصابت رأسي، ثم أردفت قائلةً : الآن فقط فهمتُ أنّ كلّ شيءٍ نسبيّ..! (**) .
******************************************************************************
*- كاتب ومترجم وقاصّ وباحث من المغرب ،عضوالأكاديميّة الإسبانيّة - الأمريكيّة للآداب والعلوم - بوغوتا - (كولومبيا).(**)- هذهالأقصوصة مُدرجة ضمن كتابي (أنطولوجيا القصّة القصيرة في أمريكا اللاتينية) تحت عنوان:"عدالة الهنود وقصص أخرى" ،الصّادر عن المشروع القومي للترجمة،المجلس الأعلى للثقافة،القاهرة 2001.
ترجمها عن الإسبانيّة : د. محمّد محمّد الخطّابي*
ليست هناك تعليقات