إن كلمة التوحيد لا إله إلا
الله التي تنفي الإلهية عما سوى الله، وتثبتها لله وحده، تبطل جميع أنواع
الشرك الأكبر في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات فإن الإله هو الذي
يستحق أن يُعبد ويُطاع ل «ما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو
المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع » [تيسير العزيز الحميد]، فمن
لم يُفرد الله بالإلهية بجميع أنواع العبادة والطاعة، ناقض شهادة التوحيد،
وكذّب عمليا ما ادعاه من توحيد الربوبية والأسماء والصفات.
ومن
أنواع العبادة التي أفرد الله جل وعلا لها الذكر في كتابه وفي سنّة نبيّه
صلى الله عليه وسلم العبادة بالتحاكم إليه وحده والحكم بما شرعه وحده، وهي
مقتضى إيمان المرء بأن الله هو {أحَْكَمُ الحَْاكمِِينَ} [هود: 45]
و{خَيُْر الفَْاصِليِنَ} [الأنعام: 57]، وأنه لا أعدل منه كلمةً ولا أحسن
منه حكما وأنه ليس له شريك في التشريع، فمن أشرك في حكمه أحدا، ناقض شهادة
التوحيد، وكذّب عمليا ما ادعاه من توحيد الربوبية والأسماء والصفات،
والأدلة على توحيد الحكم والتشريع كثيرة جدا.
قال الشنقيطي: «الإشراك
بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته، قال في حكمه: {وَلَا يشُِْركُ فِي
حُكْمِهِ أحََدًا} [الكهف: 26]، وفي قراءة ابن عامر من السبعة {وَلَا
تشُِْركْ فِي حُكْمِهِ أحََدًا} بصيغة النهي؛ وقال في الإشراك به في
عبادته: {فمََن كاَنَ يرَْجُو لقَِاءَ رَبهِِّ فلَيْعَْمَلْ عَمَلًا
صَالحًِا وَلَا يشُِْركْ بعِِباَدَةِ رَبهِِّ أحََدًا} [الكهف: 110 ]،
فالأمران سواء كما ترى إيضاحه إن شاء الله » [أضواء البيان]. وقال أيضا:
«وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الحكم لله وحده لا شريك له فيه على
كلتا القراءتين جاء مبينا في آيات أخر »، ثم ذكر منها قوله تعالى:{إنِِ
الحُْكْمُ إلَِّا لِلَّهِ أَمَرَ ألََّا تَعْبُدُوا إلَِّا إِيَّاهُ ذَلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثََر الناَّسِ لَا يعَْلمَُونَ}
[يوسف:40]، وقوله: {أفَحَُكْمَ الجَْاهِليِةَِّ يبَغُْونَ وَمَنْ أحَْسَنُ
مِنَ اللهَِّ حُكْمًا لقَِّوْمٍ يوُقنِوُنَ} [المائدة:50]، وقوله:
{أفَغََيَْر اللهَِّ أبَتْغَِي حَكَمًا وَهُوَ الذَِّي أنَزَلَ إلِيَكُْمُ
الكِْتاَبَ مُفَصَّلًا} [الأنعام: 114]. ثم قال: «ويفُهم من هذه الآيات...
أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله، وهذا المفهوم
جاء مبينا في آيات أخر، كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة
بدعوى أنها ذبيحة الله: }وَلَا تأَكْلُوُا مِمَّا لمَْ يُذْكَرِ اسْمُ
اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ ليَوُحوُنَ
إلَِى أوَْليِاَئهِِمْ ليِجُاَدلِوُكمُْ وَإنِْ أطَعَْتمُُوهُمْ إنِكَُّمْ
لمَُشِْركوُنَ} [الأنعام: 121]، فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم، وهذا الإشراك
في الطاعة، واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى هو المراد بعبادة
الشيطان في قوله تعالى: {ألَمَْ أعَْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أنَ
لَّا تعَْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنِهَُّ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأنَِ
اعْبُدُونِي هَذَا صَِراطٌ مُّسْتَقِيم} [يس: 60/61 ] ثم قال: «ولذا سمى
الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء، في قوله تعالى:
{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشِْركِينَ قَتْلَ أوَْلَادِهِمْ
شَُركَاؤُهُمْ ليُِْردُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ
شَاءَ اللهَُّ مَا فعََلوُهُ فذََرْهُمْ وَمَا يفَْتَروُنَ} [الأنعام:
137]، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا لعدي بن حاتم ءرضي الله عنهء
لما سأله عن قوله تعالى:{اتخََّذُوا أحَْباَرَهُمْ وَرُهْباَنهَُمْ
أرَْباَباً مِنْ دُونِ اللهَِّ} [التوبة: 31]، فبيّن له أنهم أحلوّا لهم ما
حرّم الله، وحرّموا عليهم ما أحلّ الله فاتبّعوهم في ذلك، وأن ذلك هو
اتخاذهم إياهم أربابا، ومن أصرح الأدلة في هذا، أن الله جل وعلا في سورة
النساء بيّن أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يتعجب من زعمهم
أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى
الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب، وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ
تَرَ إلَِى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بَِما أنُزِلَ
إِلَيْكَ وَمَا أنُزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أنَ يتَحََاكمَُوا إلَِى
الطاَّغوُتِ وَقدَْ أمُِرُوا أنَ يكَفُْرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ
أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 60]، وبهذه النصوص السماوية
التي ذكرنا يظهر غاية الظهور، أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها
الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله
صلى الله عليهم وسلم أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته،
وأعماه عن نور الوحي مثلهم »[أضواء البيان].
وأما قوله، جل وعلا:
{أفَغََيَْر اللهَِّ أبَتْغَِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ
الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام: 114]، ففي تدبرها فوائد كثيرة، قال
الشنقيطي: «ذكر بعض أهل العلم [كصاحب «البحر المحيط »] أن بعض الكفار طلبوا
[من] النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحاكم معهم إلى بعض الكهان، كما كانت
عادة العرب إذا تنازعوا واختلفوا، تحاكموا إلى بعض الكهنة، والعياذ بالله
»، فأنزل الله جل وعلا هذه الآية وأمر النبي صلى الله عليه وسلم «أن ينكر
كل الإنكار على من يبتغي حَكَما غير خالق السماوات والأرض الذي هو الحكم
العدل اللطيف الخبير » [العذب النمَير].
قال ابن القيم، رحمه الله: «الرضا بالله رباّ،ً أن لا يتخذ ربّاً
غير الله تعالى يسكن إلى تدبيره، وينزل به حوائجه، قال الله تعالى: {قلُْ
أغََيَْر اللهَِّ أبَغِْي رَباًّ وَهُوَ رَبُّ كلُِّ شَْيءٍ} [الأنعام:
164]، قال ابن عباس، رضي الله عنهما: سيدا وإلها؛ يعني فكيف أطلب ربّاً
غيره، وهو ربّ كل شيء؟ وقال في أول السورة: {قلُْ أغََيَْر اللهَِّ
أتَخَِّذُ وَليِاًّ فاَطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأرَْضِ} [الأنعام: 14]، يعني
معبودا وناصرا ومعينا وملجأ، وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة،
وقال في وسطها {أفََغَيَْر اللَّهِ أبَْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي
أنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكِْتاَبَ مُفَصَّلًا} [الأنعام: 114]، أي: أفغير الله
أبتغي من يحكم بيني وبينكم، فنتحاكم إليه فيما اختلفنا فيه؟ ... وأنت إذا
تأمّلت هذه الآيات الثلاث حق التأمل، رأيتها هي نفس الرضا بالله ربّاً،
وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، ورأيت الحديث يترجم
عنها، ومشتقا منها؛ فكثير من الناس يرضى بالله رباّ،ً ولا يبغي رباّ سواه،
لكنه لا يرضى به وحده وليا وناصرا، بل يوالي من دونه أولياء، ظنا منه أنهم
يقربونه إلى الله، وأن موالاتهم كموالاة خواص الملك، وهذا عين الشرك، بل
التوحيد أن لا يتخذ من دونه أولياء، والقرآن مملوء من وصف المشركين بأنهم
اتخذوا من دونه أولياء... وكثير من الناس يبتغي غيره حكما، يتحاكم إليه،
ويخاصم إليه، ويرضى بحكمه، وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد؛ أن لا
يتخذ سواه رباّ،ً ولا إلها،ً ولا غيره حَكَما »ً [مدارج السالكين].
فمن ابتغى حَكَما سوى الله كان مشركا مؤمنا بالطاغوت عابدا له كالذي ابتغى سواه رباّ أو إلهاً أو وليّاً.
مما يؤكّد هذا أن الله حكم بأن من اتخذ غيره مشرّعا فقد جعله ندّا لله، لا
فرق بينه وبين من جعل له شريكا في الدعاء أو الشفاعة، فقال جل وعلا:
{وَلقََدْ جِئتْمُُوناَ فرَُادَى كمََا خَلقَْناَكمُْ أوََّلَ مَرَّةٍ
وَترََكتْمُ مَّا خَوَّلنْاَكمُْ وَرَاءَ ظهُوُرِكمُْ وَمَا نرََى مَعَكُمْ
شُفَعَاءَكمُُ الذَِّينَ زَعَمْتمُْ أنَهَُّمْ فِيكُمْ شَُركاَءُ لقََد
تقََّطعََّ بيَنْكَمُْ وَضَلَّ عَنكمُ مَّا كنُتمُْ تزَْعُمُونَ} [الأنعام:
94]، وقال جلّ وعلا: {قلُْ أرََأيَتْمُْ شَُركاَءَكمُُ الذَِّينَ
تدَْعُونَ مِن دوُنِ اللهَِّ أرَُونِي مَاذا خَلَقُوا مِنَ الَْأرْضِ أَمْ
لَهُمْ شِْركٌ فِي السَّمَوَاتِ أمَْ آتيَْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى
بَيِّنَتٍ مِّنْهُ بَلْ إنِ يَعِدُ الظاَّلمُِونَ بعَْضُهُم بعَْضًا إلَِّا
غُرُورًا} [الفاطر:40]، وقال جلّ وعلا: }أمَْ لهَُمْ شَُركاَءُ شََرعُوا
لهَُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يأَذَْن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ
الْفَصْلِ لَقُضَِي بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ} [الشورى: 21].
ولما تكنّى أحد الصحابة رضي الله عنهم ب «أبي
الحَكَم »، نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قائلا: (إن الله هو
الحَكَم، وإليه الحُكْم) [رواه أبو داود والنسائي عن أبي شريح].
--{ إنّ الله هو الحَكَم وإليه الحُكْم }--
بواسطة ضفاف البيلسان
فى
10/21/2016
تقدير: 5
ليست هناك تعليقات