من المعاني التي ظلت طيّ التجربة الإنسانية في الإبداع الإنساني عموماً، تلك العلاقة بين الآباء و الأبناء، وما وسمها من التضحية والهجر والفقد ونكران الذات و العقوق والبرّ ، فلا يكاد يمرّ بنا نص إنساني خالد؛ إلا وجدنا في حواشيه ما يشي بذلك، منذ الإلياذة لهوميروس وأوديب لسوفوكليس و الإنياسة لفرجيل، والدون الهادئ لشولوخوف. بعيداً عن مدونة العرب الشفاهية الكبرى (الزير سالم). ولكنّ العقوق في منظومة العرب الأخلاقية كان يمثل لعنة كبرى، ولهذا أكّد الإسلام فيما أكّد عليه برّ الوالدين في أكثر من نص، ومن هنا تبدو أهمية النصوص التي تعرّض بالخارجين على منظومة القيم هذه وتكشفهم، و تبيّن الأثر النفسي الكبير في ذات المتلقي، وبهذا فقد أفلح مطبخ الشعر (بحسب عبدالله الغذامي) في صناعة ثقافة لاتستطيع مجتمعاتنا مفارقتها، برغم سطوة الحداثة كنمط فاعل في مفاصل حياتنا. وفي هذا الباب ورد غير نص فصيح و نبطي، مغرق في القدم، وطارئ جديد، تعرض بالعقوق، و تسرف في العتاب، وتستذكر عطاء الأب – أو الأم- بحبّ ، و تضحيته ليضمن العيش الكريم لولده، ثم يتدرج في نشيده إلى أن يتبادل الاب والابن دوري الضعف والقوة، وكيف ينقلب الحال، و لايكاد نصّ يتخطى هذه المضامين حتى في تسلسل أفكارها. في حوارية تجعل الابن في موضع اللوم والعتاب، و تختلف حدة العتاب من شاعرٍ إلى آخر. *أمية بن أبي الصلت اشتهر ابن أبي الصلت كونه شاعراً حنيفياً رزين الديباجة، أدرك الإسلام ولم يسلم، ويتبيّن لنا من قصيدته أنه عانى من عقوق ولده بعدما تقدم به السنّ، تغيرت معاملة الابن لوالده، ولم يراع حقوق الوالدين. وقد اشتهرت هذه القصيدة حتى إن بعضهم وضعها في متن حديث شريف، يزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بكى عندما سمع الأبيات، و قال للولد العاقّ :" أنت ومالك لأبيك" ، غير أن هناك من يضعّف الحديث. وإليكم الأبيات: غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً...تعلُّ بما أدنـي إليـك وتنهـلُ إذا ليلة نابتك بالشكو لم أبت...لشكـواك إلا ساهـراً أتملمـلُ كأني أنا المطروق دونك بالذي...طرقتَ به دوني وعيني تهملُ فلما بلغت السن والغاية التي...إليها مدى ما كنتُ منك أؤمِّـلُ جعلت جزائي منك جبهاً وغلظةً...كأنك أنت المنعم المتفضـلُ فليتك إذ لم تَرعَ حق أبوتي...فعلت كما الجار المجاور يفعـلُ فأوليتني حق الجوار ولم تكن...عليّ بمال دون مالـك تبخـلُ * فريج الغياثي تنسب القصيدة إلى غير شاعر نبطي، وتروى أكثر من قصيدة على ذات الوزن و القافية، وتتفق في المعنى و معظم الألفاظ، منها قصيدة جحيش بن مهاوش السرحاني ( قبيلة الغياثي تقع شمال الأردن ، وقبيلة السرحاني شمال السعودية وبين مضاربهما قرابة مائتي كم) ويبدو أن النصّ الأول تمّ تداوله في مضارب البدو الممتدة من نجد على بادية الشام، و تم تعديله على يد أكثر من شاعر. المهم في القصة الأشهر، أن أولاد الشاعر تركوا أباهم عند الرحيل، امتثالاً لطلب نسائهم اللاتي تذمرن من خدمته، وفي الرواية ينادي الشاعر ابنه الأحب (عليّ) الذي عاد إليه نادماً، ليحمله ويرحل به مع الركب، وتظهر في قصيدة الغياثي البيئة البدوية بمفرداتها، و ثقافة عيشها، فيما تذهب قصيدة ابن الصلت إلى صرامة لغوية ، وإن استنطقت عبرات الرجال. ياطروش ياللـي ناحريـن المراقيـب .. تريضولي واقصـروا مـن خطاكـم واخذوا كلام الصدق مابـه تكاذيـب..... ياموافقيـن الخيـر حـنـا ويـاكـم ياعلـي مـا ضربتكـوا بالمصاليـب ..... ولا سمعت الجيـران لجـة ابكاكـم ياعلي ماسرحتكـوا مع اجانيـب ........ولا علـى الصقعـه كليتـوا عشاكـم اركض مع الخلقـات وارافـق الذيـب ....من خوف لا ينقـص عليكـم عشاكم واحفيت رجلي بي سهـوم اللواهيـب ... خليت لحـم الريـم يخالـط غداكـم وياما شريت السمن من عرض ماجيب ..يفـز قلبـي يـوم يبكـي حـداكـم تروشنـي روش النعـاج المجاريـب ... ولا حـديــث يا علي مـــن نـسـاكـم يا عيال دوكـم لحيتـي كلهـا شيـب .... هـذا زمـان قعودنـا فـي ذراكــم لا بـد يـوم عـاوي دونـي الذيـب ...... بالقبر ما افرق طيبكـم مـن رداكـم والكم بالطيـب تـروي المغاليـب ..... واذا تبعتوا الجـد مـا احـد شناكـم يا عيال ياجيـل الخنـا كلكـوا عيـب ..... ياللـي علـى الوالـد كثيـر لغاكـم يالله عسى انساكم لا تحبل ولا تجيـب .... والشمـس مطفيـه وتعتـم سمـاكـم عيسى الشيخ حسن
بين أمية بن أبي الصلت و فرَج الغياثي .. بقلم: عيسى الشيخ حسن
بواسطة ضفاف البيلسان
فى
4/09/2016
تقدير: 5
ليست هناك تعليقات