الجديد

يدٌّ أخرى للموت .. الكاتبة: بشرى البشوات





يدٌّ أخرى للموت..





 بعد تلك الأمسية حملت بندقيتي ومضيت في شأني, أمي التي أنجبتنا توسلت إلينا أن لا نلتقي في معركة, ما دامت غير قادرة على أن تمنع أحدنا من أن يمضي في دربه. الطلقات السبع التي استقرت في جسده ولم تخرج منه كانت كافية لتصرعه, الأبواب التي لاذ بها, وأوصدت في وجهه ظلت كذلك طيلة المساء الجاف. افترشنا الأرض قبالته نرتب الساعات العجاف القادمة فوق بعضها ,حين دخلنا الساعة السابعة والعشرين ,بدأت بقع خضراء تظهر على بطنه العاري, القميص الذي مزقه بنفسه حين ثارت ثورته تركه لنا. لم أكن أستطيع أن أبعد نظري عنه ,إحدى مقلتيه بدأت بالسيلان وعتمة موحشة شلّت قرنيته , لذلك قلت:سنتناوب على حمل جثته كما تناوبنا من قبل على قص أظافر جزعنا. حين يأتي دوري في حمله , كان هو يأخذ قسطا من راحة مستحيلة بدت لكلينا ويمرر اللوم على رقبتي بسكين صدئ يحزّ ولا يقطع. لم يكن حَملهُ على ظهرنا مفرشخ الساقين أمرا هينا, فهو كميتٍ لن يكون بمقدوره أن يعقد ذراعيه حول رقبة أحدنا كيلا يسقط , لذلك كنا نشدّ الذراعين ونمسك قبضته جيدا. كنا نطرحه أرضا حين يهاجمنا الملح وينهش جلودنا المتسخة . لم نسترح كثيرا فنحن في سباق مع الوقت , نسنده إلى ظهر أحدنا حين نرتاح, نمدّ ساقيه ونسبل ذراعيّه, وينظر ثلاثتنا كل ّ في اتجاه نرصد الوقت المتبقي لمّا دخلنا يومنا الثالث, أخذ الزبد المدمّى يسيل من فمه وأنفه ,فنقوم بمسحه بأطراف أكمامنا, راح بطنه ينتفخ وانتشر اللون الأخضر القاتم تحت جلد البطن ,وفقاعات الغاز راحت تتكاثر تحت جلد وجهه وبرزت عيناه, تدلى لسانه بشكل مخيف ومعكل تلك الملامح النافرة لم أستطع أن أراه .كُنت أقرّب أصابعي من وجهه فأراها تنغرز وتخرج من قحف جمجمته , قمت بلف قطعة قماش حول رأسه إلى أسفل ذقنه لأمنع فكه من التدليّ أكثر .بدأت رائحته الكريهة تتجمع فوقنا, وأخذ صوت أمي يرتعد بيننا إياكم ! كانت جثته لينة ورخوة , سرنا مسافة شاحبة دون كلام ,دون توقف وعرق أجسادنا امتزج مع رائحته النفّاذة. قال لي: لماذا لا نتركه هنا ونمضي, ستلتهمه ديدان جسده عما قريب ,ومرة اقترح عليّ أن نحفر وندفنه . َيسكبُ أفكاره أمامي وفي حضرة صمتي الجاف يعود لسحبها كمن يسحب دلوا فارغاً , في يومنا الخامس أخذت مقلة عينه تسيل أكثر ,وأخذ الجلد الأخضر يتقشر ويتساقط كما تساقطت أظافره,التي طالما غرزها في رؤوسنا ,وراحت بعض اليرقات التي لم نعرفها بداية , راحت تتزايد وتتكاثر حول فمه,ومن ثم تصير ديداناً,وبدأ شعره الأسود الطويل يتساقط. كنا نلتقط قطع الجلد الأخضر عن ثيابنا. في ليلته الأولى معنا نزعنا حزامه الجلدي ,لنترك لجذعه فرصة للتنفس, تناولنا طعامنا وتناوبنا على النوم حتى لا تفتك الجرذان بجثته, كم نعمنا براحة بليدة! وكنا نمنيّ أنفسنا بالحصول على راحة مستحيلة . بقينا هكذا لستة أشهر متتالية حتى ذابت جثته تماما وانحلت في الهواء الصافر حولنا وامتصتها مساماتنا. ظلت عظامه حولنا تستحضر كل ذئاب الحياة,ومع مضي كل هذا الوقت طالت شعورنا وغزانا القمل والتصقت ثيابنا بأجسادنا , بعد سنة من ذلك قررنا أن نحمل عظامه معنا , تداولنا في الأمر لساعات طويلة, ومشينا بعد أن جمعنا كل العظام, فلا يعقل أن نمضي بقية حياتنا نحرس عظام أخٍ قتله أحدنا, بينما الأخر كان يرى ما يحدث ويدرك بين اللحظة والثانية من أن أحدهما سيقتل الأخر .في ذلك الصيف وحين اُطلقتْ عليه الرصاصة الأولى,وظل يدور ويدور في باحة البيت, يصرخ طالباً النجدة, طالباً الاسعاف ثم خرج إلى الشارع وطرق على الأبواب ,خمسة أو ستة أبواب لم تفتح في وجهه, وأمي الخرساء تحاول بكل ما فيها من موت أن تمدّ له يد الموت أكثر. حين لاذ أخيرا بتلك الغرفة الزجاجية ,تابع أحدنا إفراغ الرصاصات التالية في جسد قاوم كثيراً حتى خمدت حركته ولفظ أنفاسه .

 الكاتبة: بشرى البشوات ــ سورية

ليست هناك تعليقات